السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه إحدى القصص التي لم تستطع عيوني مقاومتها
وهي ليست حصرا على المكان والزمان الموجودين في القصه فهي تعمم على دمشق وبيروت وبغداد واغلب مدننا العربيه
القصة منقوله ولم اجد اسم كاتبها أرجو المعذره من كاتبها
الأربعاء يوم مميز بالنسبة لنا نحن معشر السائقين .. فالمدينة كلها تتحول في هذا اليوم إلى سوق كبير مما يعني أن دواليب سيارتنا ستتحرك بلا توقف حتى ينته السوق ويعود كل شيء إلى حالته الطبيعية ..
سوق الأربعاء المزدحم دوماً يزداد ازدحماً في شهر رمضان وخاصة في ثلثه الأخير حيث يهرع الجميع لشراء مستلزمات العيد الكثيرة والتي يكون أكثرها لا زوم لها ! ، ولكنها الرغبة في الاستهلاك حتى الفلس الأخير رغم صعوبة الوضع الاقتصادي ، ففي النهاية تبقى هواية الشراء والاستهلاك عند عموم العرب متعة لا تقاوم !..
إحدى السيدات حشرت نفسها حشراً داخل السيارة فاستحوذ جسدها الضخم على معظم مساحة الكرسي الخلفي ولم تترك إلا القليل منها لزوجها المسكين الذي انهمك في تدوين لستة طويلة من طلبات المطبخ كانت تمليها عليه .. قد تستغربون لماذا تذهب هي أيضاً إلى السوق طالما سيقوم زوجها المقدام بمهمة الشراء ..
- بالك المصاري اللي معي بتكفي ؟..
لم تنتظر منه إجابة واستطردت قائلة :
- هاتلك كمان خمسين دينار لانو الستاير تبعتنا بدها تغيير !..
لو كنت مكانه لما نبست ببنت شفة وفعلت كما فعل تماماً وأعطيتها طلبها على الفور .. ليس لأني أقدس الحياة الزوجية أو خشية على مشاعر القوارير حين نرفض لهن طلباً .. لكن خوفاً على نفسي من الموت سحقاً !..
وصلنا إلى السوق وشعرت بالشفقة على سيارتي وعلى ذلك الزوج الذي بذل جهدا كبيراً كي يخرج قارورته من سيارتي ليتفرقا فيما بعد بين أقسام السوق حيث الخضار والملابس والذي منو ..
الاستهلاك لا يقتصر على الأزواج فقط .. ذلك الشاب كان فرحاً للغاية لأنه استطاع تحقيق حلمه بتغيير هتافه النقال بأخر أحدث .. وقبل أن ينزل من السيارة كان يسر لصديقه بأنه يحلم بأحدث شاهده في السوق .. كنت سأنصحه بأن يرفع بنطاله وهو يدفع لي الأجرة ولكني تذكرت أنها الموضة ! .. أما الفتيات فحكايتهن حكاية في مسألة الشراء ، ولا أعرف لماذا إصرارهن بأن سائقي سيارات الأجرة صم لا يسمعون حديثهن الذي أغلبه يبدأ بعبارة بيني وبينك ومتحكيش لحدا ! ..
خطرت لي فكرة دخول السوق لاستطلاع أسعار الطيور المغردة التي كانت تربيتها يوماً هوايتي .. لا تتعجبوا ، فلكل منا هفوة وسقطة نحو ترف ما ، مع أن تربية طيور الزينة في غزة أقرب منها لمشروع اقتصادي وليس ترفا كما يظن البعض ..
كان السوق مزدحم كعادته كأنه يوم الحشر .. كل شيء يُباع هنا .. الباعة يبدعون من أجل ترويج بضاعتهم بأعلى سعر ممكن ، بينما يحاول الزبائن إثبات أن لحومهم مُرة بكثرة الفصال ..!
وصلت إلى قسم طيور الزينة حيث الكناري والحسون والببغاوات وأنواع أخرى كثيرة .. على كل حال لست مهتم سوى بالكناري والحسون فقط ، وتذكروا أنني جئت للاستطلاع وحسب وليس في نيتي شراء شيء محدد ..
مشهد غريب لفت انتباهي عندما اقتربت أكثر .. طفلة صغيرة تجلس على الرصيف تحيط بذراعيها قفص فيه طائر الحسون تتدلى بين أسلاكه خصلات شعرها الأصفر كأنها تحاول إخفاء طيرها عن أعين الناس .. الأغرب أن الحسون مازال يغرد وهذا نادر الحدوث لأن من عادة الحساسين الصمت إن اقترب أحد من قفصها فكيف والقفص محتضن بهذه الطريقة ..
لم أكن الوحيد الذي لفت انتباهه هذا المشهد فقد كان هناك آخرين يحاولون شراء الحسون ويتحدثون بشيء من الريبة مع الطفلة التي كانت ترد بعدوانية مبالغ فيها إلى أن تدخلت وسألتها ..
- إلك العصفور يا شاطرة ؟ ..
رفعت رأسها و قالت بتحد واضح :
- آه إلي .. إيش بدك ؟!
تجاهلت أسلوبها وسألتها :
- بدك تبيعيه ؟
- آه بدي أبيعه ، يعني جايه على السوق أفسحه ؟!
ضقت ذرعاً بأسلوبها في الرد فقلت و صبري بدأ ينفذ ..
- مع مين جاية على السوق .. في حدا معك ؟..
تخيلت من نظرتها النارية التي لا تناسب سنها أبدا بالإضافة إلى زفرة الضيق التي أطلقتها أنها ستقذف في وجهي شيئا لتدخلي فيما لا يعنيني ، لكنها قالت بغضب وهي تُشير بيدها :
- معي جدي قاعد هناك .. بعدين انت جاي تشتري ولا تعمل تحقيق ؟
نظرت إلى حيث أشارت فوجدت رجل عجوز فذهبت أسأله لأطمئن بأنها لم تسرق العصفور كما اتهمها أحد الشباب الذين تعرضوا لسلاطة لسانها ، وعندما عرفت منه أن والد الطفلة الذي هو ابنه شهيد وأن العصفور يعود لوالدها ، قررت شراء العصفور بلا فصال وبالمبلغ الذي ستطلبه .. وهو ما حدث ..
ذهبت باتجاه السيارة والقفص في يدي ولولا نظرات الحسرة التي شاهدتها في عيني الطفلة عندما ناولتها المال لكنت مرتاح الضمير لعمل الخير الذي قمت به ، فلقد اشتريت العصفور بسعر لم تكن لتحصل عليه في ظل رداءة الوضع الاقتصادي الذي يمر به القطاع بسبب الصهاينة وعملائهم وكذلك أصدقائهم ..أقصد إخواننا في الإسلام و العروبة !..
وصلت إلى السيارة وقبل أن أدير مفتاح المحرك وجدت الطفلة تدق بيدها على زجاج النافذة ويبدو أنها كانت تركض بسرعة للحاق بي بسبب تسارع أنفاسها وعدم انتظام الكلمات في حديثها ، فقلت لها ..
- بالراحة عشان أفهم .. شو بدك بالضبط ؟ ..
- بحكيلك لو سمحت ممكن آخد القفص ..أمانة تعطيني إياه لأنو قديم ومش حتستفيد منو ..
أطلت الصمت قبل أن أرد عليها فاستطردت قائلة :
- بعدين أنا بدي أبيع العصفور لحالو من غير القفص ، وإذا بدك بشتريلك واحد جديد على حسابي ، المهم رجعلي القفص تبعي ..
لم يعد باستطاعتي أن أرفض لها طلبا .. ليس لأنها ابنة شهيد وحسب ، لكن لذلك الأدب الذي لم أعتده منها مذ قابلتها ولذلك الانكسار الرهيب الذي لمحته في عينيها وهي تطلب مني برجاء أن أُعيد إليها القفص .. أعطيتها مبلغاً صغيراً من المال لشراء قفص جديد أضع فيه الطائر فأسرعت إلى حيث كنا ثم عادت من بين الزحام بعد فترة من الوقت بصحبة جدها الذي بالكاد يستطيع السير ..
أردت أن أخرج العصفور من القفص القديم لأضعه في الجديد ولكنها استوقفتني لتقوم هي بذلك ، وعندما أمسكت بالعصفور احتضنته بكفيها الصغيرين وقبلته بسرعة ثم وضعته في القفص الجديد وهي تحاول إخفاء دمعة مسحتها على الفور بذراعها في لمح البصر كي لا يراها أحد ..
- إذا مروحين ممكن أخذكم معي في طريقي ..
وجهت دعوتي للجد فأجابت حفيدته على الفور ..
- إذا نازل البلد خذنا عند أقرب صيدلية ..
رفض الجد دعوتي معللا بأنه سيشتري بعض المستلزمات من السوق فقامت حفيدته بإبعاده قليلا عن السيارة وتحدثت معه بصوت منخفض كأنها تحاول إقناعه ، ثم بدا وكأن شيئا ما قد حدث جعل الطفلة تصرخ في وجه جدها بانفعال شديد ، ثم تحول انفعالها إلى هستريا من البكاء والكلام الغير المفهوم إلى أن استقر بها الحال للجلوس على الرصيف واضعة جبهتها على ركبتيها وتحيط ساقيها بذراعيها و دخلت في نوبة بكاء ..
لم أفهم ما الذي حدث ولكني أشفقت على الجد الذي لم يستطع بوهنه عمل أي شيء مع حفيدته التي غضبت وتمردت عليه في هذا السوق المزدحم ، فطلبت منه الجلوس في السيارة ليرتاح ويهدئ من روعه و ريثما تهدأ حفيدته كطير مذبوح ينزف دمعا ، ثم طلبت منه أن يشرح لي ما حدث وما هي اللغة التي كانت تتحدث بها حفيدته ..
- كنت عارف انها حتعمل هيك ، لكن أمها الله يسامحها هي اللي طلبت مني أكذب عليها وحطتني في هيك موقف ..
لم يكن ما قاله العجوز جوابا على سؤالي بقدر ما كان عتبا لنفسه على ما قام به ، ولكي أفهم أكثر سألته :
- يعني هي زعلانة عشان كذبت عليها ؟
تنهد الشيخ وسرد لي حكايته كأنه يحاول التخلص من حمل ثقيل لم يعد قادر على حمله بسبب السن وما فعله به المرض .. فهمت منه أن ابنه الوحيد تزوج فتاة من البوسنيات اللاتي لجأن إلى غزة هربا من الاغتصاب والجرائم التي كان يرتكبها الصرب بحق مسلمي البوسنة ، لكن يبدو أن الفتاة هربت من نار الصرب لرمضاء اليهود .. فلقد قصف الصهاينة المنزل الذي تسكن فيه فهدموه على من بداخله أثناء أحد الاجتياحات مما أفقدها بصرها وزوجها الذي أراد أن يقدم لها حياة جديدة لم تحظ منها إلا بابنتها يارا التي يتمت وهي في الخامسة من عمرها ، ثم انتقلت الأم وابنتها إلى بيت الجد في مخيم خان يونس .. عاش الجميع في المنزل المسقوف بألواح الصاج و المكون من غرفتين معتمدين على ما يجود به أهل الخير من خلال الجمعيات وبعض مما يتسنى الحصول عليه من وكالة الغوث .. ثم ضاق الحال عندما ضعف بصر الرجل وزاد عليه المرض ولم يعد باستطاعته بذل المجهود اللازم لملاحقة الجمعيات الخيرية للحصول على ما يسد رمقه و من معه من طعام ..
- كان الله في عونك ياحج وعون اللي زيك .. يعني حفيدتك كانت بتحكي باللغة البوسنية ؟!
أومأ الرجل برأسه ثم قال :
- تعلمتها من أمها اللي طلبت مني أقنعها ببيع العصفور عشان اشتري بثمنه ملابس جديدة للبنت تعيد فيها متل كل الصغار .. وعشان هي عارفة ان البنت مش ممكن توافق على بيع العصفور لانو من ريحة أبوها وبتعتبره أعز شيء بتملكه ، خلتني أكذب وأقول أنو بدنا نبيعه مشان نشتري دوا لعلاج أمها .. هينك شايف شو ساوت لما عرفت إني كذبت عليها .. المشكلة إني بقدرش أزعلها لأني وأمها صرنا نعتمد عليها في كتير أشياء وتقريبا هي المسئولة عنا ..
تركت الجد وذهبت إلى حفيدته التي مازلت تجلس غاضبة على الرصيف ..
- هالحين انت ليش زعلانة من جدك ؟..
رفعت رأسها وعيناها مازلت غارقة في الدموع ثم قالت بغضب :
- انت ايش بدك مني هالحين ؟ مش خلص شريت العصفور ..
- عموما إذا بطلت عن البيعة أنا مستعد أرجعلك العصفور ..
- عن جد ؟.. طيب والقفص الجديد اللي شريته شو بدك تعمل فيه ؟ ..
- يا ستي ولا يهمك بنشتريله عصفور تاني .. بس أنا إلي شرطين قبل ما أرجع العصفور ..
مسحت دموعها وقالت بتوجس وبشيء من العدوانية ..
- وشو هما الشرطين إن شاء الله ؟..
- أول اشي بدك تروحي تستسمحي جدك لأنك زعلتيه ..
ضاقت عيناها أكثر كأنها تحاول النفاذ ببصرها لما بداخلي ثم قالت :
- والشرط التاني ؟..
- الشرط التاني بحكيلك إياه بس تنفذي الأول ..
كان مشهدا مؤثرا من الجد الذي احتضن حفديته وهو يبكي عندما انحنت تقبل يده وتطلب من السماح ، وقبل أن أقول شرطي الثاني وضعت يارا المال الذي باعت به عصفورها على تبلون السيارة كأنها تخشى أن أرجع في كلامي ثم أدخلت عصفورها في قفصها وهي تشكرني وتحث جدها على النزول من السيارة ليعودا إلى البيت ولكني استوقفتها قائلا :
- لسة ضايل شرط .. شو نسيتي ؟..
ضمت القفص إلى صدرها أكثر لتوحي إليّ أن العصفور أصبح ملكها مرة أخرى ثم قالت بنفاذ صبر :
- شو هو الشرط التاني ؟..
شعرت أنني مقدم على تمثيل دور كنت متأكد أنني سأتقنه بكل سهولة ولكن نظرة واحدة في عيني الفتاة الممتلئتان بالكبرياء والذكاء صعبا عليّ الأمر فخرج الكلام مني مبعثراً لا معنى له ..
- عندي بنت في سنك بالضبط وبدي اشتري إلها ملابس للعيد فبدي منك تيجي معي على المحل عشان تساعديني في الاختيار وعشان البياع يعرف المقاس ..
لم أكن مقنعاً بالقدر الكافي وهذا ما فهمته عندما ردت على طلبي :
- طيب وليش متخلي بنتك تختار بنفسها .. زمان بابا كان بياخدني معاه لما يشتريلي فستان العيد ..
حاولت أنو أبدو مقنعا أكثر وأجعلها تشعر بأنها تسدي لي معروفا ثم قلت :
- كل سنة بنعمل هيك ، بس هالمرة حابب أعمل إلها مفاجئة.. بعدين الموضوع مش حياخد أكثر من خمس دقائق وبعدها بوصلكو لوين ما بدكو ..
شعرت أنني سأرتكب حماقة وأتبع ما أنوي فعله بأذى كبير عندما لحظت بدء تكون الدموع في عينيها وهي ترفض بإصرار وانفعال شديد ، فتداركت الموقف واحترمت رفضها ولكني لم أتركهما حتى أوصلتهما إلى باب المنزل ، ثم عدت وبجواري القفص الذي نويت الاحتفاظ به كي يذكرني دوماً بأن في مدننا مئات مثل يارا وأسرتها وعشرات الآلاف مثلي يغضون الطرف عما يضطرهم للبيع ..