سر الابتسامة
سرح بخياله إلى الفضاء البعيد بينما راح ينفث دخان سيجارته لتكوّن أشكال مستديرة، سُرعان ما تتلاشى شيئا فشيئاً، تذكر كل لوحة وقفا أمامها بينما راحت تشرح له عن حديّة أو نعومة خطوطها، ومزج ألوانها، وتكويناتها، والكتل، والفراغ، والسطح، والملمس.
كان يبدو كمن ينظر إلى لا شيء، تذكر كم كانت مولعة (بالفن التشكيلي)، على عكسه تماماً، فقد كان متيماً بالبحر حد الجنون، وكم تمنى في صغره أن يصبح بحاراً، لكن سنوات عمره انقضت دون أفق.
تذكر كل (المعارض الفنية)، الني كانت تصر أن يكون برفقتها عند زيارتها لها، كان يكره مرافقتها لتلك الأماكن، بينما كانت تبدو في قمّة السّعادة، بل كان يشعر بها (تتدلل)، وهي تتنقل بشغف من لوحة لأخرى، بينما كان يبدو (مقموصا)، وأن شبحاً يطارده بين تلك اللوحات.
كان يقول لها: أنا اكره تصرفات وأشكال الكثير من الفنانين الذين تعرفينهم وطريقة تعاملهم، فأنت تعرفين أن بعضهم يتعامل مع اليهود باسم (السلام)، مقابل أن يذهب في دورة تدريبية مجانية إلى أحدى الدول الأوروبية، ثم ألا يمكن للفنان أن يُعبر عن ذاته إلا من خلال شيء مميز في تركيبة شكله ليكون مُلفتاً للنظر؟؟ أنا لا أفهم أن رجلاً يصحو من نومه صباحاً ليقوم بتسريح شعره الطويل ثم يربطه كالنساء، أو أن يلبس بنطالاً ممزقاً، أو يرتدي (شورتاً)، أو يضع (حلقاً)، في أذن واحدة، ثم يقول: أنها حرية شخصية، كل هذه النقاشات حول هذه المواضيع كانت سبباً مُنفراً لأحاديثهم، وكانا لا يتفقان إلا عندما يتم تغيير مجرى الحديث.
نعم ربما كانا يتفقان على غالبية الأمور، إلا حول موضوع الفن التشكيلي كان التباين أشد وضوحاً بينهما، تبسم ثم عاود شروده من جديد، تذكر كل زاوية في ذلك المقهى العتيق ببنيانه وأثاثه، لعل تلك الذكريات هي من حركت حواسه عندما كان يمر من أمامه، عاد بذاكرته مبتسماً وكأنما يعيد شريطاً سينمائياً، عند كل زاوية من زواياه، هنا احتسيا قهوة الصباح ذات يوم، هنا سحرته ضحكتها، هنا بكت على كتفه عندما أخفقت في الامتحان، هنا همست له في يوم ماطر:
- ضمني بين ذراعيك.
- قد يرانا أحدهم.
- ولماذا أنت خائف ؟
- لا .. لا شيء.
- إذا هيا .. أنا لا يهمني أحد، أم تريد أن أعلمك الجُرأة ؟
- لكن من يرانا، سوف يتعجب من فارق العمر بيننا.
- ومن قال أن هذا شيء يهمني ؟ أنا أحب الرجل الناضج.
- لماذا؟
- لأنه يكون صاحب خبرة، ليس أرعن كشباب اليوم.
تذكر كل زهرة أهداها إياها صباحاً، عند كل أغنية من أغاني فيروز التي كانا يعشقانها حتى الجنون بلا مُنازع، كانت ترجوه قائلة: لا تجعل فارق العُمر بيننا سدّاً، أنا قادرة على تجاوز هذه المعضلة كما تسميها، بينما كان يشفق عليها ولا يريد أن يظلمها، ففارق السن بينهما هو الهم الأكبر الذي كان يُؤرقه ويجعله يقضي نهاره مهموماً حزيناً، وليله أرقاً قلقاً لا يستطيع النوم.
ذات صباح، تأخر في نومه على غير عادته، أفاق على رنين هاتفه النقال، نعم: مضت أيام ثلاثة لم يسمع أخبارها، لكنه كان يجد لها الأعذار، فهي تسافر عند أهلها دون أن تخبره، بينما علا صوت مُحدثه قائلاً :
- هيه .. أين أنت؟؟
- أنا هُنا.
- أخيراً عرفت أين اختفت صديقتك.
- نعم .. كيف .. لم أفهم ؟؟
- هل تصدق أين سافرت ؟؟
- لا .. متى سافرت .. وأين؟؟
- هههه .. سافرت إلى فرنسا، مع (....).
أصيب بالدهشة، فهذا الشاب المتعجرف كان يكرهه بصورة غريبة من دون الآخرين، لشكله، وطبيعة لباسه الغريبة، وذلك الصندل الذي ينتعله والذي يعود لعصور الجاهلية، حاول أن يستجمع ما تبقى من رباطة جأشه، كي لا يشعر مُحدثه بشيء وقال: نعم تذكرته إنه ذلك الرسام الذي يصغرها بعشر سنوات، أليس كذلك؟؟
أغلق سماعة الهاتف، ثم راح يبكي .. بل أخذ ينتحب، بينما علت شفتاه ابتسامة عريضة، ورغم مرور سنوات على تلك الحادثة، عبثاً حاول أن يفهم سر تلك الابتسامة !!!!