قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: «خرجت إليكم وقد بينت لي ليلة القدر ومسيح الضلالة فكان تلاح بين رجلين بسدة المسجد فأتيتهما لأحجز بينهما فأنسيتهما, وسأشدوا لكم شدواً: أما ليلة القدر فالتمسوها في العشر الأواخر وتراً, وأما مسيح الضلالة فإنه أعور العين أجلى الجبهة عريض النحر فيه دفا كأنه قطن بن عبد العزى قال: يا رسول الله هل يضرني شبهه؟ قال: لا أنت امرؤ مسلم وهو امرؤ كافر» [الألباني].
عندما يأتي ذكر ليلة القدر والدجال في سياق واحد – كما في هذا الحديث- فإنه وفقاً لمنهجية الحديث النبوي لابد أن تكون هناك علاقة بين ليلة القدر ومسيح الضلالة الدجال..
وسورة الدخان هي التفسير الكامل لتلك العلاقة..
فقد ورد فيها ذكر ليلة القدر: {حم{1} وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ{2} إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:1-3 ]
ولها مناسبة مع الدجال، حيث خبأها رسول الله لابن صياد باعتباره الدجال كما جاء في الحديث:
عَنْ أَبي ذَرٍّ أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قَال لابْنِ صَيَّادٍ: «إنِّي قَدْ خَبَّأْت لَكَ خَبِيئًا، فَقَالَ: خَبَّأْت لِي عَظْمَ شَاةٍ عَفْرَاءَ، وَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ : وَ{الدُّخَانَ}، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اخْسَأْ فَإِنَّك لَنْ تَسْبِقَ الْقَدَرَ» [1].
وفي رواية: «اخْسَأْ مَا شَاءَ الله كَانَ» ..
فكانت المواجهة بعقيدة القدر:" لَنْ تَسْبِقَ الْقَدَرَ"، "مَا شَاء الله كَانَ"، ومن هنا جاءت الروايات التي تناقش العلاقة بين عقيدة القدر وعلامة الدجال:
يقول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسًا، وَإِنَّ مَجُوسَ هَذِهِ الأَُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ قَدَرَ، فَمَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلاَ تَعُودُوهُ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلاَ تَشْهَدُوهُ، وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِهِ » [2].
والعلاقة بين عقيدة القدر والدجال هي أن هذه العقيدة قائمة على أن الله مُقَدِّر القدر خيره وشره، وأن فساد هذه العقيدة بدأ من إنكار أن يكون الله قد خلق الشر..
فجاءت العلاقة لتثبت أن الدجال بصفته "شَرُّ غَائِبٍ مُنْتَظَر".. قدر من أقدار الله، محكومٌ بالسنن القدرية، غير خارج عنها..
جاء في كتاب السنة لابن أبي عاصم: سمعت عبيد الله بن معاذ العنبري –وهو أحد رواة حديث الإيمان المشهور-، يقول: "ليس على أهل القدر حديث أشد من حديث الدجال - وأحسبه ذكره عن بعض المتقدمين - يقول: لأن الله تعالى أراد ذلك وشاءه، ولو لم يرده ويشأه لم يكن خلقه، ولو شاء لم يخلقه، ثم أمر الأسباب التي أرادها الله فأجابته وسخرها له، ولو لم يرد ذلك ما كانت، وغير جائز أن يكون الله تعالى خلق خلقاً فيريد ذلك الخلق أمراً، والله غير مريد له ولا شاءه".
ولذلك لن يخرج الدجال إلا عند فساد الاعتقاد في القدر..
ولذلك أيضاً وجَّه الرسول المؤمنين إلى التعامل مع الدجال بصفته قدر لا يمكن منعه:
- مثلما قال لعمر عندما أراد قتل ابن صياد –باعتباره الدجال-: «إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ» [البخاري].
- ومثلما حفظ الله المدينة من شره بقدره، فلن يستطيع دخولها: «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إِلاَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ، إِلاَّ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ» [البخاري] [3].
- ومثلما أمر المؤمنين في آخر الزمان بالاستغاثة بالله في مواجهته، وقراءة فواتح الكهف عليه: «وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ فَمَنْ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ فَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ الْكَهْفِ فَتَكُونَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ النَّارُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» [الألباني] ..
- ولن تكون نهايته إلا على يد المسيح عيسى عليه السلام –أداة الخير القدرية- والذي سيقول له: «إِنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَسْبِقَنِي بِهَا» [الألباني] ..
وكما نسي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بيان الدجال وليلة القدر بسبب الملاحاة بين رجلين – كما جاء في الحديث المذكور أول المقال-، فإن ذلك لأن الملاحاة من جنس الحال الذي سيكون عليه الناس عند ظهور الدجال، كما أكدته عدة روايات:
- روى الإمام ابن حجر في فتح الباري: "وعند الحاكم من طريق قتادة عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد رفعه: أنه يخرج -يعني الدجال- في نَقْصٍ من الدنيا، وخفة من الدين وسُوءِ ذَاتِ بَيْن" [4].
- عن أبي هريرة قال: أحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق ؟
حدثنا رسول الله أبو القاسم الصادق المصدوق: «إن الأعور الدجال مسيح الضلالة يخرج من قبل المشرق، في زمان اختلاف من الناس وفرقة، فيبلغ ما شاء الله من الأرض في أربعين يوماً.. الله أعلم ما مقدارها، الله أعلم ما مقدارها - مرتين -، ويُنزِلُ الله عيسى ابن مريم فيؤمهم، فإذا رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده.. قتل الله الدجال وأظهر المؤمنين» [5].
أما إثبات العلاقة بين الدجال وليلة القدر من ناحية آيات الدخان فيتبين من عدة جوانب:
أولاً: ذكر ليلة القدر بصفتها "ليلة مباركة":
لتكون أول حقائق لتقابل مع الدجال، لأن البركة تمام الخير والنعم، والدجال شر وجدب، وفقر وجوع، وخوف ورعب، والبركة نفع، والدجال لا نفع فيه [6].
فذكر الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ضرورة عقَدِية لتصور أعمال الدجال تصوراً صحيحاً.
وفي قول الله {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] يقول الإمام ابن كثير: "وقوله {فيها يفرق كل أمر حكيم} أي في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآَجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها".
فالآجال والأرزاق من أمر الله المحكم ومن الضروري إثبات ذلك في مواجهة الدجال، حيث ستكون له فتنة في هذا الأمر، كما أن أفعال الدجال من حيث الإحياء والإماتة ومن حيث الرزق والذهب وجبال الخبز وسمن مواشي من يفتن به، وجوع من يكفر به، تتطلب حسماً إيمانياً في قضية الأجل والرزق.
ثانياً: أن قدر الله يكون كل عام في ليلة القدر:
وهذه الحقيقة هي التي تثبت أن بقاء الدجال إلى آخر الزمان سيظل محكوماً بقدر الله، وأن كل عام - بكل لحظة فيه- يعيشها الدجال على ظهر الأرض حتى ظهوره في آخر الزمان محكومة بقدر الله سبحانه، وأن بقاء الدجال حتى هذا الوقت لا يخرجه عن تقدير الله وإحكامه.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية الخبأ الذي خبأه للدجال قولاً يجمع بين القدر والأجل: «اخسأ فلن تعدو قدرك – أجلك» [7].
يقول الإمام ابن حجر في الفتح: قَوْله : "(فَلَنْ تَعْدُو قَدْرك) أَيْ لَنْ تُجَاوِز مَا قَدَّرَ اللَّه فِيك أَوْ مِقْدَار أَمْثَالك مِنْ الْكُهَّان".
و{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} في آية الدخان معناها: يُقَدّر، ولكن جاء بلفظ "يُفْرَق" الذي يثبت الفرق بين الأمر الحكيم وبين أفعال الدجال.
وقوله جل وعلا: {حَكِيم} أي محكم لا يبدل ولا يغير، ولهذا قال جل جلاله: {أمراً مِنْ عِنْدِنَا} أي جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه، وكلمة "حكيم" هنا لها مناسبة مع الدجال لأن أعمال الدجال قد تبدو خارج معنى الإحكام، مثل أن تكون ناره جنة، وجنته نار، ومثل تمثل الشياطين في صورة الآباء، فكل أعمال الدجال ـ في أمر الله المحكم ـ لا تخرج عن معنى الفتنة، فكان لابد من إثبات أن الإحياء والإماتة على وجه الحقيقة هي لله، وإن كان الدجال سيقتل رجلاً ثم يحييه.. فإن الآجال مكتوبة عند الله، وإنما سيكون ذلك بأمر الله.. فتنة وابتلاءً، فالله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
ثالثاً: صفة ليلة القدر المقابلة للدخان:
فليلة القدر هي ليلة لا شر فيها، وهو معنى قول الله عز وجل: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5].. في مقابل معنى الدخان: وهو "الشر" الذي يعلو..
وليلة القدر صافية واضحة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ، لاَ بَرْدَ فِيهَا وَلاَ حَرَّ، وَلاَ يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ، وَإِنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَلاَ يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ» ..[8]
»لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ يُصْبِحُ شَمْسُها صَبِيحَتَهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ» ..[9]
وهو ما يقابل تماماً صفة الدخان:
- فالدخن: الغم، وليلة دخنانة: أي شديدة الغم، مقابل ليلة القدر سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ .
- والدخان: السواد، والغيم.. مقابل ليلة القدر " صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا..
- والشياطين أتباع الدجال كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام.. لا يكون لهم ليلة القدر وجود ولا حركة ولا أثر: «وَلاَ يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ» ..[10]
--------------------------------------------------------------------------------
(1) اخرجه البخارى وأحمد .
(2) أخرجه أبو داود، والبيهقي في السنن الكبرى (ج 10 / ص 203)، قال الإمام ابن الأثير في "النهاية في غريب الأثر": "{مجس} (س) فيه [القَدَرِيَّة مَجوسُ هذه الأُمَّة] قيل: إنما جَعَلَهم مَجُوساً لِمُضاهاة مَذْهَبهم مذهبَ المَجوس في قولهم بالأصْلَين وهما النور والظُّلْمة، يَزْعُمون أنَّ الخير من فِعْل النور، والشرَّ من فعِل الظَّلْمة. وكذا القَدَرِية يُضِيفون الخير إلى اللّه، والشرَّ إلى الإنسان والشيطانِ. واللّه تعالى خالِقُهما معاً، ولا يكون شيءٌ منهما إلاَّ بمَشِيئتِه، فهما مضافان إليه خَلْقاً وإيجاداً، وإلى الفاعِلين لهما عَمَلاً واكْتِساباً".
(3) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخرج منها العلم والإيمان خمسة: الحَرَمَان، والعراقان، والشام. منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام، وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية.
فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال. والنسك الفاسد وانتشر بعد ذلك في غيرها، والشام كان بها النصب والقدر، وأما التجهم فإنما ظهر من ناحية خراسان وهو شر البدع، وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال لا يدخلها، ولم يزل العلم والإيمان ظاهرا بها.
(4) فتح الباري جزء 13 صفحة 92.
(5) رواه ابن حبان ج 15 ص 223، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي.
(6) وهو الوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال حين قال عنه: «يَمْكُثُ أَبَوَا الدَّجَّالِ ثَلاَثِينَ عَاماً لاَ يُولَدُ لَهُمَا ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلاَمٌ أَعْوَرُ أَضَرُّ شَىْءٍ وَأَقَلُّهُ نَفْعاً تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ» [رواه أحمد من حديث أبي بكرة ج 44 ص 300].
(7) (مصنف عبد الرزاق - (ج 11 / ص 390) روي عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف، انظر شرح ابن بطال - (ج 5 / ص 380).
(
أخرجه أحمد (5/324 ، 22817) ، قال الهيثمى (3/175) : رجاله ثقات . والضياء (8/279 ، رقم 342)، "بلجة": مشرقة، "ساجية": ساكنة.
(9) أخرجه الطيالسي (2680) ، وابن خزيمة في "صحيحه" (3/ 331-332) ، وكذا الضياء في "المختارة" (64/ 43/ 2).
(10) أخرجه أحمد (5/324 ، 22817) ، قال الهيثمى (3/175) : رجاله ثقات . والضياء (8/279 ، رقم 342)
المصدر
Islamway.com