حوار بين طالبة سعودية مبتعثة .. ودكتور بريطاني..
كان يوماً صعباً قبل بضعة أسابيع، ذلك الذي كان مقرراً فيه أن أناقش رسالتي، مجهود السنوات الماضية كله مرهون بما سيحدث هذا الصباح. وعلى العكس من توقعاتي - وبتوفيق من الله - سارت الأمور على ما يرام. كانت هناك أسئلة سهلة وأخرى صعبة وثالثة من النوع الذي تحتاج لكي تجيب عليها بشكل صحيح إلى أن تفكر "على قدميك" كما يقول التعبير الإنجليزي، ورابعة تشعر فعلاً بأن حصولك على درجة الدكتوراه مرهون بإجابتك عليها. في كل الأحوال فقد كان النقاش العلمي على مستوى عالٍ وبالتالي ماتعاً إلى حد كبير، والنتيجة كما أشتهي بحمد الله.
لاحقاً سأقضي بعد الوقت مع الممتحن الداخلي من جامعتي، ليخبرني عن التعديلات المقترحة على رسالتي قبل أن أقوم بطباعة النسخة التي سيتم اعتمادها. أمضينا ساعة نتحدث، وكان اليوم على نهايته وكنت مرهقة جداً، ولكن بدلاً من العودة للبيت وجدت نفسي في امتحان من نوع آخر!
بدأ الممتحن يتحدث عن طلبته من المسلمين، وتحدث عن طالبة سابقة من الخليج، وأنها ابنة رجل مشهور، ثم ابتسم بخبث وقال حين يزورونني هنا فإنهم يشربون الخمور التي يتعففون عن شربها في بلدهم! كان من الواضح أن الرجل يريد أن يفتح نقاشاً، ولهذا بدأ بهذه العبارات الاستفزازية.
في الحقيقة كانت مناقشة الدكتوراه قد استنزفت قدراتي العقلية والجسدية، فهممت بألا أرد. لكن صوتاً داخلياً جاءني موبخاً: "بذلتِ مجهوداً وطاقة في الدفاع عن أمر دنيوي قبل ساعتين.. وتبخلين ببضع كلمات أو دقائق من أجل دينك؟"، وهكذا وجدت نفسي في هذا الحوار.
وجدت الرجل يهاجم الديانات الثلاث، ويعتبر بأن موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، رجال أذكياء، استطاعوا أن يطوعوا الناس لإرادتهم وأن يجعلوهم يؤمنون برسالاتهم رغم كل ما فيها من تناقضات. أما الله فغير موجود، ونظرية دارون تفسر كل شيء، ولا يوجد سبب لحياتنا ولا لموتنا ولن يكون، وأنا عالم ولا أؤمن إلا بما يثبته العلم، ولا تقولوا لي عن نظريات الإعجاز العلمي للقرآن فهي مضحكة، ما أسهل أن نؤول كل شيء على النحو الذي نريد.
ثم لماذا عليك أن تتحجبي وليس مطلوباً ذلك من الرجل؟ سألته بهدوء: لماذا يزعجك حجابي في حين أنه لا يزعجني أنا ؟ رد بشكل قاطع: "لأنه أمر غير بريطاني.. غير غربي"، وكأنه أراد أن يقول: "غير حضاري". وهنا كنت أقول بأنه يعتقد إذن الحضارة هي ما الغرب عليه، وغير ذلك غير حضاري ولا يجب أن يؤخذ به؟ عفواً، ولكن أحد الأشياء التي سأخرج بها من دراستي للدكتوراه هي تعلمي لضرورة التمحيص والتدقيق في كآفة الآراء قبل تبني أحدها، وأنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه يملك كافة الإجابات. وقياساً على ما يقوله فعليّ أيضاً أن أرفض كل شيء هنا لأنه ليس إسلاميا وليس سعوديا، وعندها سأوصف بالتعصب وضيق الأفق!
غير الأستاذ مجرى الحديث قليلاً متحدثاً بأنه ولو افترضنا جدلاً أن الله موجود فمن السخف أن يهتم بما نأكل أو نشرب، وأن يتحكم فينا على هذا النحو، هذا تدخل في الحريات الفردية، ألا ترين كيف أنه تم استغلال الدين للتحكم بالناس؟ وأن السياسة استغلت الدين؟ فتسلط الطغاة على الشعوب، وتسلط الرجال على النساء؟
ردي كان بأنه أما أن الساسة والمرتزقين بالدين من الرجال قد استغلوه أبشع استغلال فهذا واقع لا يمكن إنكاره، لا في الماضي ولا في الحاضر، لكن ذلك لا يعني بأن المشكلة في الدين ذاته.
أما بالنسبة للحريات الفردية، فهنا يتضح الفرق بين الإسلام والحضارة الغربية الحديثة. في الحضارة الغربية حريات الأفراد مقدسة إلى أبعد حد، حتى لو أضرت بالمجتمع، فالتضحية تكون بالجماعة لأجل الفرد، في حين الإسلام يعلي من قيمة الأسرة ومن ثم المجتمع الذي هو ركيزة كل حضارة، وبالتالي قد يضحي بحرية الفرد لأجل الجماعة. أنت كما تفضلت تشرب الخمر ولا تسكر، لكنك أستاذ جامعي متزن قادر على التحكم في تصرفاتك، لكننا نعلم بأن المجتمع الذي نعيش فيها يعاني من مشكلة الشرب الزائد إلى درجة تكاد تزلزل أركان المجتمع. فحوادث السيارات والاعتداء على الأعراض والسرقات والعنف الأسري التي تعلن عنها وسائل الإعلام غالباً ما يكون وراءها شخص مخمور، وهكذا من أجل لذته هو كان علينا جميعاً أن نعاني.
والأمر نفسه ينطبق على العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، ففي حين أن الأمر متاح هنا لأن في ذلك إشباعا لهوى الطرفين، فإنه في المقابل ينتج أطفالا يكون مصيرهم غالباً التشرد بين دور الرعاية، أو العيش بدون أم أو بدون أب. ومع أن الحكومة تقوم بالإنفاق على هؤلاء المراهقات الأمهات بسخاء، فتعطيهن بيتاً ومصروفاً وأموراً لا تتوفر للأسر الطبيعية، فإن النتيجة ليست كما نشتهي. المال وحده لا ينشئ مواطناً صالحاً، تحتاج إلى أب وأم وبيت سليم لتربي طفلاً تربية سليمة. وها نحن نرى اليوم عصابات أولاد الشوارع التي زلزلت أمن البلاد، وبالعودة للجناة نجدهم قادمين من البيوت المفككة التي تعرف بعائلات الأم العازبة. كل هذا لأن رجلاً وامرأة لم يفرغا شهوتهما وطاقتهما بالشكل الصحيح. وهكذا نجد للأم الواحدة أربعة أطفال لكل منهم شكل ولون مختلف. فالحرية المطلقة وهم، ولا بد من قيود معقولة لتستقيم حياة البشر.
شعرت بأنه بدأ يفكر فيما قلته، لكنه عاد ليقول أنا قرأت الديانات الثلاث ولم أجد ضالتي، أنا لا أؤمن بالمطلق ولا أكفر بالمطلق، أنا لا أرى أن فكرة وجود الله مقنعة، لكنني مازلت أضعها في الحسبان.. أحياناً. علقت بأنه ما دمت لا تبحث في هذه الأديان بقلب متجرد من الهوى فسيصعب عليك أن تصل إلى شيء، فلديك أحكام مسبقة، لو بحثت وأنت ترتدي قبعة العالم الباحث عن الحقيقة لا من يبحث عن القصور فيما هو أمامه فربما سيتغير موقفك.
هنا كان عليّ فعلاً أن أستأذن، شكرني محدثي وقال أن آتي في أي وقت بشأن تعديلات الرسالة، وإنه سعيد بنقاشنا.
في يوم آخر كنت أتناول الغداء مع صديقتي إيفا ("الوطن" 2931)، سألتها بحكم كونها مسيحية وعلمانية، عن السبب الذي يجعلني أتعرض لهذه الأسئلة أكثر من زملائي الرجال؟ ثم لماذا تصرف الممتحن معي على هذا النحو، ولم يقم بذلك مع طلابه المسلمين؟
ابتسمت وقالت "لأنك يا عزيزتي تمثلين كل ما يمكن أن يدحض أفكاره الاستعلائية. يا مرام لسنوات طويلة كان الغرب ينظر للحجاب والمرأة المحجبة بدونية، وأن الحجاب ليس أكثر من وسيلة ذكورية للقمع، ولحجب روح المرأة وعقلها، لذلك لم يكترثوا به كثيراً، لأن المرأة المسلمة آنذاك كان هذا هو وضعها فعلاً. لكن اليوم الوضع اختلف فالجيل الجديد من المسلمات في الغرب، متعلمات وذكيات وواثقات من أنفسهن، وهنا تكمن الخطورة! مجرد كونك طالبة مسلمة ومحجبة تدرس تخصصاً علمياً تقنياً تنفر منه الفتيات الغربيات أصلاً بل وتحضرين درجة الدكتوراه فيه هو أمر مستفز لكل المعتقدات الغربية المسبقة عن المرأة المسلمة، ثم جلوسك في قاعة الامتحان وأداؤك الجيد هناك هو أكثر استفزازاً، إذن فحجابك لم يحجب عقلك وهنا القضية، فأصبح مهتماً بأن يعرف كيف تقبل فتاة متعلمة على هذا النحو أن ترضخ (بعيداً عن الوطن الأم) لما يعتبره هو تمييزاً بغيضاً؟!".
حين فكرت في كلامها استطعت أن أفهم فعلاً لماذا أصبح الحجاب قضية عالمية مقلقة، ولماذا تطرفت فرنسا حد منع الحجاب في المدارس، فحجاب الجدات الأميات، والأمهات الخائفات ربما كان مطلوباً، لكن حجاب الشابات الطموحات اليوم يشكل دعاية "فجة" بنظرهم لقيم الإسلام التي تعارض أهم ما يقدسه الغربي: حريته الفردية.
فلأولئك الذين كثيراً ما وصفوا الإسلام بأنه منغلق في وجه الآخر، وبالمقابل يمجدون الغرب بالمطلق، هل يمكن أن يكونوا أكثر اعتدالاً ويعترفوا بأن أي أيديولوجية تخاف مما يناقضها؟ أو ممن قد يكشف عوارها؟
مرام عبدالرحمن مكاوي - كاتبة سعودية
صحيفة الوطن - 3 محرم 1429هـ